الناس معذورون إذا لم يفهموا الدكتور يوسف بطرس، وهو يتحدث عن تحصيل الضرائب، لا لشىء، إلا لأنهم عاشوا طويلاً فى غياب كامل عن الموضوع!
فالطبيعى أن الضرائب فى أغلبها يجرى تحصيلها، إما من الأفراد الذين يحققون أرباحاً فى أعمالهم، وإما من الأنشطة الخاصة الرائجة التى ينهض بها القطاع الخاص، وكلا النوعين كان غائباً على مدى سنوات طويلة، عن وجه الحياة فى البلد!
زمان.. كان عبداللطيف أبورجيلة مثلاً يمكن أن يؤدى ضرائب عن نجاحه فى إدارة مرفق نقل الركاب فى العاصمة، وتحقيق أرباح هائلة من ورائه، وكان فرغلى باشا، يدفع ضرائبه عن تفوقه فى مجال الأقطان وتجارتها، إلى الدرجة التى قيل عنه معها إنه «ملك القطن».. ولم يكن عبود باشا مختلفاً عن الرجلين.. وغيرهم بالطبع كان هناك كثيرون يعملون ويكسبون ويدفعون ضرائب مستحقة!
وحين أطاحت بهم، وبغيرهم، عصا التأميمات، والمصادرات، والحراسات، لم يعد هناك مجال لعمل الفرد ونجاحه، وبالتالى تحقيقه لأى أرباح، ولم يعد هناك ميدان يمكن أن يتحرك فيه القطاع الخاص، وتم اختزال الدولة كلها فى الحكومة، وفى القطاع العام وشركاته!
ولم يكن من المتصور، والحال هكذا، أن تدفع الحكومة ضرائب للحكومة، ولا كان من المُتخيل أن تدفع هيئة النقل العام، على سبيل المثال، ضرائبها المستحقة للحكومة التى تتبعها، ولا أى جهة عامة أخرى طبعاً، وأصبح الأمر فى مجمله، على طول السنوات الممتدة من بدء وأد أى نشاط خاص، إلى اليوم، أقرب ما يكون إلى العبث منه إلى أى شىء آخر..
ووصلت المأساة إلى حد أن الحكومة لم تكن فقط لا تدفع للحكومة، وإنما كانت المؤسسات الصحفية الحكومية تقوم بتحصيل ضريبة التمغة عن كل إعلان فيها نيابة عن الحكومة، ثم تمتنع علناً عن توريدها للخزانة العامة.
ولم يكن غريباً، فى ظل أوضاع مأساوية كهذه، أن نسمع فى كل لحظة، عن ضرائب يجب تحصيلها، من جهات عامة مستحقة عليها، وهى ضرائب وصلت فى نسبتها إلى ٦٠٪ وأحياناً ٧٠٪ وأكثر!!
وإذا كان يقال بيننا، إن الكلام ليس عليه جمرك، فإن الحكاية كلها، فيما يتصل بالضرائب، قد خضعت للمنطق نفسه طوال ما يقرب من نصف قرن، ولم يكن هناك تحصيل لضرائب، من أى نوع، وإنما كان هناك طول الوقت «كلام» عن ضرائب، وعن النسب التى وصلت إليها، ولم تكن هناك مشكلة فى النسبة، حتى ولو وصلت إلى ١٠٠٪، لأنه لم يكن هناك تحصيل من أصله!
والشىء المحزن، أنه كلما فكر أحد وقتها فى المطالبة بخفض نسبة الضرائب عن ٧٠٪ إلى ٦٥٪ مثلاً، فإنه كان يتعرض للقتل المعنوى فى البرلمان، وفى غير البرلمان، لسبب بسيط هو أن ملف الضرائب إجمالاً كان يجرى استغلاله للمزايدة السياسية، ولم يكن أحد يفكر فى أن الضرائب إنما لجأت إليها المجتمعات السوية، لتصريف أمور العباد، لا للمزايدة على الإطلاق..
ولذلك غابت الضرائب، كثقافة يتعين أن تكون راسخة بين الناس، ووجد يوسف بطرس أنه فى مواجهة مأزق حقيقى، وراح يسأل نفسه: ماذا علىَّ أن أفعل؟!.. فماذا فعل؟!