نَبَاتُ الله
فالإنسان نبات الله يتولى زراعته، ويتعهده برعايته، ويجني ثمرة عمله الله وإلى ذلك الإشارة بقوله عزَّ شأنه
[وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا]
فالحق ينزل الماء وهو مني الرجل من سماء الرفعة لأن الرجل أرفع قدرًا في حالة الوقاع ويضعه في أرض المرأة[وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا]
وهو يشبه النبات في هيئته وإن كانت حالته مقلوبه فالرأس بما فيها من حواس بمثابة الجذر في النبات - حيث به حواس النبات والقوة الغاذية وغيرها والجسم كالجذع للنبات والأذرع والأرجل كالسيقان والأوراق ويمر الإنسان بمراحل النبات فيكون صغيرًا ثم شابًا فتيًا غضًا طريًا، ثم رجلاً قويًا ثم شيخًا، ثم يكون حصاده، من الذي يحصده؟ الزارع له - وهو الله فإن كان زرعًا له ثمرة من الصالحات والقربات فهنيئًا له الجنة، وإن كان زرعًا ليس له ثمر من الطاعات والخيرات فهو حطبٌ توقد به جهنم { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }
ولذلك ورد في الأثر أن الناس كالشجرة فمن الشجر من له ظل وله ثمر ومنه من له ظل وليس له ثمر، ومنه من ليس له ظل ولا ثمر.
فأما الصنف الأول الذي له ظل وله ثمرفمثل العلماء العاملين والأولياء والصالحين فمن الناس من ينتفع بالجلوس معهم ولو لم يسمع علمهم لأنهم يوجهون الناس بعلمهم وينهضونهم بحالهم ويدعونهم إلى الصراط المستقيم بسلوكهم وهديهم ومنهم من يُقبل على علومهم الإلهامية يغترفون منها وهي ثمرة طاعاتهم ونتاج إخلاصهم - لقول النبى{ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ }[1]
وأولئك هم المقربون وأما الذي له ظل وليس له ثمر فكأهل اليمين من المؤمنين: وهم صالحون في أنفسهم، مطيعون لله بأعمالهم ينتفع بهم من يجالسهم - لتأثره بسلوكهم وأخلاقهم - وإن كانوا لا يوجهون غيرهم بأقوالهم ولا يرشدونهم بتوجيهاتهم، فيكفيهم أنهم يعزلون شرَّهم عن غيرهم، ويَسْلَمُ الخَلْقُ من أيديهم وألسنتهم.
وأما الذي ليس له ظل ولا ثمر فكالفاسق والفاجر والعياذ بالله: فلا هو ينفع نفسه - بقوله أو بعمله - ولا ينتفع به غيره بل إنه يجلب الضُّرَّ لنفسه بسوء فعله، ويصيب غيره بضُّرِّه فهو كشجرة الشوك كلُّ مَنْ مرَّ بها آذته وكذلك هو يؤذي الناس بلسانه بالسبِّ والشَّتم والغِيبة والنميمة وغيرها ويؤذيهم بيده بشكاية أو سرقة أو قتل وهكذا، فالمؤمن يجب أن يكون كالشجرة الطيبة من يأوي إليه يجد العطف ويشعر بالحنان والرقة ويحس باللطف والأنس ومن يلمسها يشم منها رائحة القرآن وأخلاق النبي العدنان وأحوال الصالحين والمتقين، فيكون كما قيل في الأثر الوارد عن الصالحين:{ عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم }
ومثل هذا هو الذي فهم الحكمة من الأذان والإقامة في أذن المولود
فالأذان والإقامة يقتضيان الصلاة فمتى هذه الصلاة؟ إنها صلاة الجنازة لهذا العبد لأنها تصلى بدون أذان أو إقامة فكأن عُمُرَ العبد مهما طال فهو كما بين إقامة الصلاة وتكبيرة الإحرام في إفتتاح الصلاة فما أصدق قول القائل إذاً:
دَقَّاتُ قَلْبِ المَــرْءِ قَائِـلَةٌ لَـهُ إِنَّ الحَيَـاةَ دَقَــــائِقٌ وَثَوَانى
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ بَعْدَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَــــانِ عُمْرٌ ثَانِ
وما أجمل قول أحد الصالحين :
يا أيها الماء المهين من الذي سواك
ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاك
يا نطفـــة بقـرارهـــا قـــــد صـورت
مــــن ذا الــــذي بحنـانـــــه أنشــــــاك
ومن الذي شق العيون فأبصـــــرت
ومـــن الـــــــذي بظهــــــوره أعــــــلاك
ومن الـذي غـــــذاك مــــــن نعمــائه
ومـــن الكــــــروب جميعهـــــا أنجـــــاك
ومن الذي تعصى ويغفـــــر دائمًـــا
ومـــن الــــــــذي تنســـى ولا ينســــــاك
ومن الذي بألست أسمعك النــــــداّ
ومـــن الــــــــذي بوصــــــاله نـــــــــاداك
ومن الذي يدنو إليك بفضــــــــــله
وإذا سـألت جنابـــــــــــــه أعطـــــــــــــاك
ومن الذي عند الشدائـد تقصـــدن
ومـــن الــــــــذي إن تســـــــألن لبــــــــاك
ومــن المجيب ذا سـألت جنابـــــه
وإذا طـلبــــت وداده أعطـــــــــــــــــــــــاك
ومــن الذي منح الجميل بفضــــله
ومـــن الــــــــذي بتــلطــف أحيـــــــــــــاك
ومـــن الذي كشف الحجاب توددا
حتـــــــــى رأت أنـــــــــــــــواره عيـنــــــاك
ومـــــن الذي ملأ الفــؤاد بحبِّـــــه
وبســــــره عند الصــــــــــــفا ناجـــــــــــاك
ومـــن الــذي أولاك نـور جمالــــه
وبذكـــــــره وشــــهـوده صــــافــــــــــــــــك
فـــــــكـــر تــــراه ظاهـرًا بجمـــاله
متـنزلاً وهــــــــــــــــــو الـــــــــــــذي والاك
بِــــــــكَ قَــــــدْ سَــمِعْتُ لَكَ اعْتَرَفْتُ
فَنَظْرَةٌ أُعْطَى بِهَا يَا سَــيِّدِى جَـــــــــــــدْوَاكَ
والوجـــــــــه أشـرق حولنا بجمـاله
وعيوننـــــا قــــــــــــــد تشـهد الأمــــــــــلاكّ
ســــــــلم على المحبوب نـور قلوبنا
طـــــــــــــــــــــــــه الـــــــذي بجمـــاله حلاَّك
والشاعر الحكيم قال:
وفي قبض كف الطفل عند ولادة
دليــــــل على الحرص المركب في الحي
وفي بسطها عند الممات إشـارة
ألا فانظروا أني خرجــــــت بـــــــــلا شـئ
[1] رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس
يتـــــــــــــبع إن شــــــــــــــــــاء الله