1 - الحصار
ثلاثة أعوام والمسلمون محاصرون والعقبات تحاصرهم , لا بيع ولا شراء ولا طعام ولا معاملة , ولكن الفارق أنهم وجدوا من يفك حصارهم , ويمزق القرارات الظالمة , وليسوا من المسلمين ! .
اليوم صرخات الأمة تنادي المسلمين بأن يفكوا حصار إخوانهم في فلسطين ولبنان والعراق والسودان وأفغانستان قائلة :
أين القلوب الرقيقة ؟ أين النفوس الشامخات ؟ أين نخوة الرجال ؟ أين العزة ؟ أين القوة ؟ أين الأخوة ؟ أين الايمان ؟ فمن يفك الحصار اليوم ؟
2 - سند البيت
كان النبي إذا دخل بيته وجد السند , وإذا خرج من بيته وجد السند , ففي البيت كانت خديجة , يقول ابن هشام : كانت وزير صدق على الإسلام يشكو الرسول إليها ويجد عندها أنسه وسلواه .
وذهبت كلماتها دافعة للنبي صلي الله عليه وسلم : امض والله لا يخزيك الله أبدا .
وهكذا يجب أن تكون بيوتنا في محنة اليوم , فإن كانت بلادنا تحت الحصار فبيوتنا محاصرة بالأزمات والضائقات والكآبات والمشكلات , ولا مخرج هذه الضغوط إلا بما قدمته أم المؤمنين خديجة لرسول الله , فكوني أيتها الزوجة خديجة ! , كن يا زوجات مثل أمنا , تحملن واصبرن وتفاءلن وادفعن أزواجكن إلى الروح العاملة لا الروح اليائسة , إلى الثقة والأمل لا إلى السخط والتذمر , إلى العمل والسعي لا إلى القعود والكسل .
3 - سند المجتمع
وفي خارج البيت كان سنده صلي الله عليه وسلم : عمه أبو طالب , ولم يكن على دين محمد , ولكنه رفع راية المدافعة والمناصرة لمحمد , وراية المواجهة للمعتدين على محمد , وراية المحبة لأنصار محمد , معلنا : اذهب فوالله لا أسلمك لشئ قط .
وجاءت كلماته ترجمة لأعماله , وأعماله ترجمة لكلماته , واليوم يدور في عقل الأمة سؤال : كيف نتخذ من المجتمع الدولي والمحلي سندا لرسالة السماء ؟ إنه بأمرين :
الأول : بالتفاعل مع مجتمعاتنا , بالمخالطة لا بالعزلة , بالمعايشة لا بالتقوقع , بالانخراط لا بالاستعلاء .
والثاني : بنشر الدعوة في المجتمع الدولي وتعريفه برسالة الإسلام , وإظهار جلال الدين في السماحة والتعاون والسلام والخير .
4 – الإيذاء
وظلت قريش ترقب زوال السندين في أي لحظة , فمات أبو طالب وبعده بشهر وخمسة أيام ماتت سيدة النساء خديجة : فمن يخفف آلام محمد ؟ ومن يواسي قلب محمد ؟ ومن يمسح أحزان محمد ؟ ومن يشد أزر محمد ؟ ومن يثبت موقف محمد ؟ ومن يدفع همة محمد ؟ .
مات من جعلهما الله نصيرا لمحمد من أهل الأرض , فهل يتخلي عنه رب الأرض والسماء ؟ خاصة بعد موتهما اشتد الإيذاء بمحمد وصحبه ! .
حتي يعترضه سفيه من سفهاء قريش وينثر التراب على رأسه , ويدخل النبي بهذا الشكل , وتراه ابنته فتبكي , وهي تغسل عنه التراب , ويرد عليها القلب الواثق , ويرد عليها الفؤاد الثابت , ويرد عليها الأمل المرتقب , وبلسان صادق قوي يقول : لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك !!!
لا تبكي أيتها الشعوب المستعبدة المحتلة اليوم ! لا تبكي أيتها الشعوب المسلمة المعذبة اليوم ! فإن الله مانع المجاهدين , فإن الله مانع المقاومين , فإن الله مانع العاملين , كيف بأمة تجاوزت اليوم المليار والنصف أن ترضي بالتفرج على تعذيبكم ؟ .
أصبحنا اليوم نتسلى بسماع الصرخات من الأطفال والنساء ! ونرفه عن أنفسنا بأنات التعذيب ! ونتمتع بالقتلى والأشلاء والدماء والجماجم .
ومن أمتنا من لا يفكر في نصرة أمته , ومن أمتنا من لا يتفوه بكلمة حق واحدة , ومن أمتنا من لا يرضي إلا بالمشاهدة :
عار ثم عار ثم عار , يا أمة تزيد على المليار !!
5 - لحظة الآخرة
ماذا بعد الحصار الدامي ؟ ماذا بعد موت السندين ؟ ماذا بعد التعذيب والإيذاء ؟ هيا إلى أرض جديدة , هيا إلى فكرة جديدة , وحول النبي الخاطر إلى واقع , والحلم إلى عمل , وذهب إلى الطائف : يبلغ عن ربه , وهنا تبدو للدعاة لحظة الآخرة المفتقدة , لا للتوقف رغم الحصار , لا للكسل رغم الممانعة , لا للقعود رغم الإيذاء , لا أجازة في دعوة الله , والله يدعونا للجنة .
وذهب النبي للطائف عساه أن يجد قلوبا لينة , ونفوسا تقبل الحق , وعقولا تستجيب للإيمان , وانطلق النبي ومعه هذه الحقائق , وفي روحه هذه الخواطر , وفي عقله هذه المعاني , ليقابل صفان من السفهاء والبلهاء والمرتزقة والمأجورين : يرمونه بالحجارة لا بالورود , يقذفونه بالحصوات لا بالزهرات , ونزفت الدماء من جسد النبي الكريم ومعه زيد بن ثابت يقيه الحجرات حتي أصيب في رأسه عدة إصابات .
إلى من يلجأ نبينا بعد أن تنكرت له هذه الدنيا ؟ إلى من يلجأ حبيبنا بعد أن أخذ بكل الأسباب واستجمع كل ما يملك ؟ لا بد للخروج من لحظة الدنيا الزائلة إلى لحظة الآخرة الحقيقية .
بدموع ودماء , و بعرق وعناء , بنبضات لاهثة , وزفرات متلاحقة , اتجه النبي إلى السماء , متضرعا إلى الله :
اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي , وقلة حيلتي , وهواني على الناس , يا أرحم الراحمين , أنت رب المستضعفين وأنت ربي , إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي .
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات , وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة , من أن ينزل بي غضبك , أو أن يحل على سخطك , لك العتبى حتى ترضى , ولا حول ولا قوة إلا بالله .
6 – وانفتحت السماء
ينزل جبريل ومعه ملك الجبال الذي يعرض هذا العرض : أن يطبق عليهما الجبلين ويدفنهم تحتهما !
هل الأمر انتقام من شدة الأذى ؟ هل الأمر غضب للنفس من قساوة العناء ؟ هل القضية قضية بطش من الخصوم ؟ والنبي يرفض العرض , وكأنه يرسي في مسامع الأزمان : لا للانتقام في دعوتنا , لا للغضب للنفس في رسالتنا , فالقضية قضية إصلاح بعد فساد , قضية نور بعد ظلمات , قضية صلاح بعد فجور , إذن فليكن التحمل والرضا بأقدار الله تعالى , من أجل الهدف الأسمى , من اجل امتداد الدعوة ونشرها وانتشارها , فانطلقت الكلمات تعبر عن مشاعر النبي الأسوة في هذه اللحظات : لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به أحدا , اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون .
إنه الحق ...وكفي , هو هو النبي الذي انطلقت كلماته يوم أن تآمر عليه يهود وخانوا العهود , فدعا عليهم : اللهم املأ قبورهم وبيوتهم نارا , فيادعاة اليوم , يا ورثة الأنبياء , يا أصحاب الرسالة : كونوا مع الحق , دوروا مع الحق , وكفي .
وكأن الحق يصدع مع النبي قائلا : يا بشر يا ناس تنكرتم للرسالة وقد كرمكم الله , بارزتم الله بالمعصية وخيره إليكم نازل , ما أصبره عليكم تجحدون به ويعافيكم ويرزقكم ؟ !!! , يا بني آدم تنكرتم وتراجعتم فسأنزل سورة هي الروح والندي على قلب محمد : ( وإذ صرفنا إليك نفر من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسي مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ) , فكانت هذه الآيات نورا في وسط الظلمات التي أحاطت برسول الله الحبيب .
أبواب السماء إذا فتحت لا تغلق , متى وصلت إلى باب المحبوب لا ترجع , فمن منا يحقق محبة الله ؟ , ومن منا يصل إلى بابه تعالى ؟ , لنا فيك أسوة يارسول الله .
7 - ومن أجل ذلك جاءت رحلتا الإسراء والمعراج !
جاءتا تكريما على صدق الرسول في دعوته , فلماذا لا نصدق في الدعوة إلى الله تعالي ؟
جاءتا تقديرا على صبره وتحمله الأمانة , فلماذا لا نؤدي الأمانات ونصبر ونتحمل ونرضي بأقدار الله ؟
جاءتا تثبيتا له على إحسانه في عرض رسالة الإسلام فلماذا لا نحسن عرض الرسالة والإسلام ؟
ذلك هو الزاد لنا , ونحن في الطريق إلى الله , فمن أراد التأييد الرباني اليوم , من هنا البداية , من تحمله وتضحيته وصبره و دعوته وإحسانه وثباته , فالعزيمة من هنا , والاعتماد على الله من هنا , والتوجه الخالص لله من هنا ,وترسيخ القيم في إمامة الرسول للأنبياء بأن الدين عند الله الإسلام من هنا , وأهميه المسجد الأقصى واسترجاعه اليوم من هنا , من رحلتي الإسراء والمعراج :
( سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله , لنريه من آياتنا الكبّرى , إنه هو السميع البصير )
فيها قدرة المولى العظيم , وفيها مكانة المصطفى الحبيب , فالذي هيأها هو الله و والذي أعدها هو الله , والذي دعا إليها هو الله , والذي خلق وسيلتها البراق هو الله , والذي اختار ليلتها هو الله , والذي يقودها هو الله , إنها معجزة وقدرة إلهية , في قوله : سبحان الذي أسرى , ليكن منت التسليم والإذعان والخضوع لأمر الله , فيا أيها المكذبون والمدلسون والمحرفون اليوم في معركة المفاهيم التي تنشرونها للنيل من الإسلام , هل تستطيعون مواجهة قدرة الله ؟ , فالله قادر عليكم وعلى ما تفعلون , ولو ملكتم قوة الأرض جميعا , بصدق أبنائه , وصدق دعاته , وصدق جنوده , وصدق الله تعالى : ( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ) الإسراء 60 , فكانت في جزء من الليل , وكان أول من لقيه صلي الله عليه وسلم أبو جهل فقال ساخرا : ألم يأتك شئ ؟ ألم يوحى إليك بشئ ؟ قال : أسري بي هذه الليلة , قال : إلى أين ؟ قال : إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس في الشام , قال : وعدت في نفس الليلة , قال : نعم , قال : أولو أخبرت الناس وجاءوا إليك أتخبرهم بما أخبرتني , قال : نعم , ثم أن لقي أبو جهل أبا بكر فقال : إن صاحبك يزعم أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعاد في نفس الليلة , فقال أبو بكر : لئن قال فقد صدق , إني لأصدقه بأبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء !, وصدق الحبيب وهو يقول عن أبي بكر : ما عرضت الإسلام على أحد إلا وكانت له كبوة عدا أبي بكر فإنه لم يتلعثم .
ولذلك كان ملخص الرحلة في قوله تعالى : ( ما كذب الفؤاد ما رأي ) , لأن رؤية الفؤاد أصدق وأتم , ورؤية البصر تنخدع بخداع البصر , يقول الحبيب : لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس , فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه .
8 – بعبده
تأمل معي : كلما علا الإنسان في المقام كان عبدا , وأعلى مقام عند اتصال الأرض بالسماء لحظة نزول القرآن :
( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا )
( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا )
( فأوحى إلى عبده ما أوحي )
( سبحان الذي أسري بعبده ليلا )
فلم يقل بحبيبه وهو حبيبه , ولم يقل بمصطفاه وهو المصطفى , بل قال بعبده ليكون أرفع ما يصل إليه البشر من مكانة , وأعلى ما يحصلون على وسام , هي هذه اللحظة فقط , وهي العبودية .
فهل حققنا العبودية ؟ أم ما زلنا نلهث وراء الدنيا ؟ أم ما زلنا نلهث وراء أمريكا ؟ , أم مازلنا نلهث وراء إسرائيل ؟, أم ما زلنا نلهث وراء هوى أنفسنا ؟
بعد أن أخبر الرسول الخبر لأم هانئ قال لها : وأنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت , فأخذت بثوبه وقالت : إني أذكرك الله أنك تأتي قومك يكذبونك وينكرون مقالتك , وأخاف أن يسطوا بك , قالت : فضرب ثوبه من يدي وقال : وإن كذبوني .
لقد كان السر في العبودية لله التي منحته قوة المواجهة مهما كانت التضحيات , يقولها اليوم الشاب ثابتا على دينه رغم المغريات , تقولها اليوم الفتاة متمسكة بحجابها وعفتها رغم السهام , يقولها الآباء والمربون ملتزمين بمنهج الإسلام رغم الصعاب , يقولها الدعاة في عزيمة وعمل متواصل رغم السجون والمعتقلات .
9 – ليلا
لتأكيد المعجزة جعلها الله تعالى في جزء من الليل وليس كل الليل , مثل معجزة موسى عليه السلام مع فرعون : ( فأسر بعبادي ليلا ) أي في وسط الليل , فكانت المعجزة وكان الانتصار .
فالانتصار لأمتنا قائم على أمرين : عبوديتنا وجهادنا , ففي جزء من الليل , الذي لا يظن فيه الناس حركة يأتي الانتصار , ولو على أعتي أهل الأرض , على فرعون الذي ادّعى الألوهية وسلك طريق الغطرسة .
فمهما اشتد ليل النكبات وظلام المشكلات فلابد من النور , بل الليل المحمل بالكوارث يحمل في طياته الفرج , ففي جزء منه كان الإسراء وكان المعراج وكان العلو وكانت الأيات الكبرى , ومعراجنا في كل يوم بهدية السماء , بهدية الله إلى الأرض : الصلاة وبالسجود ( فاسجد واقترب ) , ولم يترك الحبيب طاعة الليل وصلاة الليل ربما لهذا السر , روى البخاري قول المصطفي : عرج بي حتى سمعت فيه صريف أقلام القدرة ثم فرضت الصلاة خمسا في العمل وخمسين في الأجر .
فرضت في السماء لتكون معراجا يرقي بالناس عند المعصية وعند الذنب وعند الابتعاد , فكلما حزب النبي أمرا كان يفزع إلى الصلاة لنتأسي به صلي الله عليه وسلم وهو القائل لبلال : أرحنا بها يا بلال .
10 – إلى المسجد الأقصى
رحلة كل محطاتها المساجد : من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى , ومن المسجد الأقصى إلى البيت المعمور في السماء , وكانت الهدية خاصة بالمساجد , فمن للمسجد الأسير اليوم في يد يهود ؟ , من للأرض المباركة ؟ , من يزود عن القدس الحزين ؟ من يحمي أعز البقاع من المنكرات ؟
يا أمة الجهاد : اكتمل الدين بإمامة الرسول للأنبياء جميعا !! فهل تفهمون ؟ انتسب المسجد الأقصى إلى أمة الإسلام فهل تقدرون وهل تدركون ؟
سماه الله مسجدا ولم يكن في حينه مسجدا باعتبار ما سيكون , فتحه عمر , وحرره صلاح الدين , واستشهد في سبيله المجاهدون , فهو أول القبلتين , وثالث الحرمين , ومسرى رسول الله , وبداية معراجه , فمتي نصلي فيه ؟ كان علماء الأمة غي كل عام يتجمعون فيه في ذكرى كل إسراء ومعراج , واستمر ذلك حتي 67 , فمتى تجتمع الأمة من جديد ؟